كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والمعازف قد أبيح بعضها في العرس ونحوه، وأبيح الحداء، وأبيح بعض أنواع الغناء. وهذه الشبهة أقوى بكثير من شبه أصحاب الحيل. فإذا كان من عقوبة هؤلاء: أن يمسخ بعضهم قردة وخنازير، فما الظن بعقوبة من جرمهم أعظم، وفعلهم أقبح؟ فالقوم الذين يخسف بهم ويمسخون،. إنما فعل ذلك بهم من جهة التأويل الفاسد الذي استحلوًا به المحارم بطريق الحيلة، وأعرضوًا عن مقصود الشارع وحكمته في تحريم هذه الأشياء. ولذلك مسخوًا قردة وخنازير كما مسخ أصحاب السبت بما تأولوا من التأويل الفاسد الذي استحلوًا به المحارم، وخسف ببعضهم كما خسف بقارون، لأن في الخمر والحرير والمعازف من الكبر والخيلاء ما في الزينة التي خرج فيها قارون على قومه، فلما مسخوا دين الله تعالى مسخهم الله، ولما تكبروا عن الحق أذلهم الله تعالى، فلما جمعوا بين الأمرين جمع الله لهم بين هاتين.
فصل:
وقد أخبر صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أن طائفة من أمته تستحل الربا باسم البيع كما أخبر عن استحلالهم الخمر باسم آخر.
فروى ابن بطة بإسناده عن الأوزاعى عن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: «يَأْتِى عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يَسْتَحِلُّونَ الرِّبَا بِالْبَيْعِ».
يعنى العينة، وهذا وإن كان مرسلًا فإنه صالح للاعتضاد به بالاتفاق، وله من المسندات ما يشهد له، وهى الأحاديث الدالة على تحريم العينة. فإنه من المعلوم أن العينة عند مستحلها إنما يسميها بيعًا، وفى هذا الحديث بيان أنها ربا لا بيع، فإن الأمة لم يستحل أحد منها الربا الصريح، وإنما استحل باسم البيع وصورته، فصوروه بصورة البيع وأعاروه لفظه.
ومن المعلوم أن الربا لم يحرم لمجرد صورته ولفظه، وإنما حرم لحقيقته ومعناه ومقصوده، وتلك الحقيقة والمعنى والمقصود قائمة في الحيل الربوية كقيامها في صريحه سواء، والمتعاقدان يعلمان ذلك من أنفسهما ويعلمه من شاهد حالهما، والله يعلم أن قصدهما نفس الربا، وإنما توسلًا إليه بعقد غير مقصود وسمياه باسم مستعار غير اسمه. ومعلوم أن هذا لا يدفع التحريم ولا يرفع المفسدة التي حرم الربا لأجلها، بل يزيدها قوة وتأكيدا من وجوه عديدة.
منها: أنه يقدم على مطالبة الغريم المحتاج بقوة لا يقدم بمثلها المربى صريحًا، لأنه واثق بصورة العقد واسمه.
ومنها: أنه يطالبه مطالبه معتقد حل تلك الزيادة وطيبها بخلاف مطالبه المربى صريحا.
ومنها: اعتقاده أن ذلك تجارة حاضرة مدارة. والنفوس أرغب شيء في التجارة، فهو في ذلك بمنزلة من أحب امرأة حبًا شديدًا ويمنعه من وصالها كونها محرمة عليه. فاحتال إلى أن أوقع بينه وبينها صورة عقد لا حقيقة له، يأمن به من بشاعة الحرام وشناعته، فصار يأتيها آمنا. وهما يعلمان في الباطن أنها ليست زوجته، وإنما أظهرا صورة عقد يتوصلان بها إلى الغرض.
ومن المعلوم أن هذا يزيد المفسدة التي حرم الحكيم الخبير لأجلها الربا قوة فإن الله سبحانه وتعالى حرم الربا لما فيه من ضرر المحتاج، وتعريضه للفقر الدائم. والدين اللازم الذي لا ينفك عنه. وتولد ذلك وزيادته إلى غاية تجتاحه وتسلبه متاعه وأثاثه كما هو الواقع في الواقع.
فالربا أخو القمار الذي يجعل المقمور سليبا حزينا محسورًا.
فمن تمام حكمة الشريعة الكاملة المنتظمة لمصالح العباد تحريمه، وتحريم الذريعة الموصلة إليه، كما حرم التفرق في الصرف قبل القبض، وأن يبيعه درهمًا بدرهم إلى أجل، وإن لم يكن هناك زيادة، فكيف يظن بالشارع مع كمال حكمته أن يبيح التحيل والمكر على حصول هذه المفسدة، ووقوعها زائدة متضاعفة بأكل المحتال فيها مال المحتاج أضعافًا مضاعفة؟ ولو سلك مثل هذا بعض الأطباء مع المرضى لأهلكهم. فإن ما حرم الله تعالى ورسوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم من المحرمات إنما هو حمية لحفظ صحة القلب، وقوة الإيمان، كما أن ما يمنع منه الطبيب مما يضر المريض حمية له، فإذا احتال المريض أو الطبيب على تناول ذلك المؤذى بتغيير صورته، مع بقاء حقيقته وطبعه، أو تغيير اسمه مع بقاء مسماه، ازداد المريض بتناوله مرضًا إلى مرضه، وترامى به إلى الهلاك، ولم ينفعه تغير صورته ولا تبدل اسمه.
وأنت إذا تأملت الحيل المتضمنة لتحليل ما حرم الله سبحانه وتعالى، وإسقاط ما أوجب وحل ما عقد وجدت الأمر فيها كذلك، ووجدت المفسدة الناشئة منها أعظم من المفسدة الناشئة من المحرمات الباقية على صورتها وأسمائها، والوجدان شاهد بذلك.
فالله سبحانه إنما حرم هذه المحرمات وغيرها لما اشتملت عليه من المفاسد المضرة بالدنيا والدين، ولم يحومها لأجل أسمائها وصورها. ومعلوم أن تلك المفاسد تابعة لحقائقها، لا تزول بتبدل أسمائها وتغير صورتها، ولو زالت تلك المفاسد بتغير الصورة والأسماء لما لعن الله سبحانه اليهود على تغيير صورة الشحم واسمه بإذابته حتى استحدث اسم الودك وصورته ثم أكلوا ثمنه وقالوا لم نأكله. وكذلك تغيير صورة الصيد يوم السبت بالصيد يوم الأحد.
فتغيير صور المحرمات وأسمائها مع بقاء مقاصدها وحقائقها زيادة في المفسدة التي حرمت لأجلها، مع تضمنه لمخادعة الله تعالى ورسوله، ونسبة المكر والخداع والغش والنفاق إلى شرعه ودينه، وأنه يحرم الشيء لمفسدة ويبيحه لأعظم منها.
ولهذا قال أيوب السختيانى: يخادعون الله كأنما يخادعون الصبيان، لو أتوا الأمر على وجهه كان أهون.
وقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: «لا تَرْتَكِبُوا مَا ارْتَكَبَتِ الْيهُودُ فَتَسْتَحِلُّوا مَحَارِمَ اللهِ بأَدْنَى الْحِيَلِ».
وقال بشر بن السرى وهو من شيوخ الإمام أحمد: نظرت في العلم، فإذا هو الحديث والرأى، فوجدت في الحديث ذكر النبيين والمرسلين، وذكر الموت، وذكر ربوبية الرب تعالى وجلاله وعظمته، وذكر الجنة والنار، والحلال والحرام، والحث على صلة الأرحام وجماع الخير. ونظرت في الرأى فإذا فيه المكر والخديعة، والتشاح، واستقصاء الحق والمماراة في الدين، واستعمال الحيل، والبعث على قطيعة الأرحام، والتجرؤ على الحرام.
وقال أبو داود: سمعت أحمد بن حنبل، وذكر أصحاب الحيل فقال: يحتالون لنقض سنن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم.
والرأى الذي اشتقت منه الحيل المتضمنة لإسقاط ما أوجب الله تعالى وإباحة ما حرم الله هو الذي اتفق السلف على ذمه وعيبه.
فروى حرب عن الشعبى قال: قال ابن مسعود رضي الله عنه: إياكم وأرأيت، أرأيت، فإنما هلك من كان قبلكم بأرأيت أرأيت، ولا تقيسوًا شيئًا بشئ فتزل قدم بعد ثبوتها.
وعن الشعبى عن مسروق قال: قال عبد الله: ليس من عام إلا والذى بعده شر منه، لا أقول أمير خير من أمير، ولا عام أخصب من عام، ولكن ذهاب خياركم وعلمائكم ثم يحدث قوم يقيسون الأمور برأيهم، فينهدم الإسلام وينثلم.
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إياكم وأصحاب الرأى، فإنهم أعداء السنن، أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها، وتفلتت منهم أن يعوها، واستحيوا حين سئلوا أن يقولوا: لا نعلم. فعارضوها برأيهم، فإياكم وإياهم.
وقال أحمد في رواية إسماعيل بن سعيد: لا يجوز شيء من الحيل.
وفى رواية صالح ابنه: الحيل لا نراها.
وقال في رواية الأثرم، وذكر حديث عبد الله بن عمر في حديث: «الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ وَلا يَحِلُّ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يُفَارِقَ صَاحِبَهُ خَشْيَةَ أَنْ يَسْتقَيلَهُ» قال فيه إبطال الحِيل.
وقال في رواية أبى الحارث: هذه الحيل التي وضعها هؤلاء، احتالوا في الشيء الذي قيل لهم: إنه حرام، فاحتالوا فيه حتى أحلوه، وقد قال صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: «لعن الله اليهود، حرمت عليهم الشحوم، فأذابوها وأكلوا أثمانها» فإنما أذابوها حتى أزالوا عنها اسم الشحوم. وقد لعن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم المحلل والمحلل له.
وقال في رواية ابنه صالح: ينقضون الأيمان بالحيل، وقد قال الله تعالى: {وَلا تنْقُضُوا الأيمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} [النحل: 91]، وقَالَ تعَالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} [الإنسان: 7].
وقال في رواية أبى طالب في التحيل لإسقاط العدة سبحان الله، ما أعجب هذا، أبطلوا كتاب الله والسنة، جعل الله على الحرائر العدة من الحمل، فليس من امرأة تطلق، أو يموت زوجها، إلا تعتد من أجل الحمل، ففرج يوطأ، ثم يعتقها على المكان فيتزوجها فيطؤها، فإن كانت حاملا، كيف يصنع؟ يطؤها رجل اليوم، ويطؤها الآخر غدًا؟ هذا نقض لكتاب الله والسنة، قال النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: «لا تُوطَأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ، وَلا غَيْرُ ذَاتِ حَمْلٍ تَحِيضَ» فلا يدرى هي حامل أم لا؟ سبحان الله ما أَسْمجَ هذا.
وقال في رواية حبيش بن سندى في الرجل يشترى الجارية ثم يعتقها من يومه ويتزوجها:
أيطؤها من يومه؟ فقال: كيف يطؤها هذا من يومه، وقد وطئها ذاك بالأمس؟ وغضب وقال: هذا أخبث قول.
وقال في رواية الميمونى: إذا حلف على شيء ثم احتال بحيلة، فصار إليه، فقد صار إلى ذلك بعينه.
وقال في رواية الميمونى، فيمن حلف على يمين، ثم احتال لإبطالها: هل يجوز؟ قال: نحن لا نرى الحيلة إلا بما يجوز. فقال له الميمونى: أليس حيلتنا فيها أن نتبع ما قالوا؟ فإذا وجدنا لهم فيها قولًا اتبعناه؟ قال: بلى هكذا هو. قلت: أو ليس هذا منا نحن حيلة؟ قال: نعم، فقلت: إنهم يقولون في رجل حلف على امرأته، وهى على درجة: إن صعدت أو نزلت فأنت طالق. قالوا: تحمل حملًا ولا تنزل. فقال: هذا الحنث بعينه، ليس هذا حيلة، هذا هو الحنث.
وذكر لأحمد: أن امرأة كانت تريد أن تفارق زوجها، فيأبى عليها، فقال لها بعض أرباب الحيل: لو ارتددت عن الإسلام بنت منه، ففعلت، فغضب أحمد رحمه الله وقال: من أفتى بهذا أو علمه أو رضى به فهو كافر.
وكذلك قال عبد الله بن المبارك ثم قال: ما أرى الشيطان يحسن مثل هذا حتى جاء هؤلاء فتعلمه منهم.
وقال يزيد بن هارون: أفتى أصحاب الحيل بشيء لو أفتى به اليهود والنصارى كان قبيحًا. أفتوًا رجلًا حلف أن لا يطلق امرأته بوجه من الوجوه فبذلت له مالًا كثيرًا في طلاقها، فأفتوه بأن يُقَبِّل أمها أو يباشرها.
وذكرت الحيلة عند شريك، فقال: من يخادع الله يخدعه.
وقال النضر بن شميل: في كتاب الحيل ثلاثمائة وعشرون مسألة كلها كفر.
وقال حفص بن غياث: ينبغى أن يكتب عليه: كتاب الفجور.
وقال عبد الله بن المبارك في قصة بنت أبى روح حيث أمرت بالارتداد في أيام أبى غسان فارتدت ففرق بينهما وأودعت السجن: فقال ابن المبارك وهو غضبان: من أمر بهذا فهو كافر، ومن كان هذا الكتاب عنده، أو في بيته ليأمر به فهو كافر، وإن هويه ولم يأمر به فهو كافر.
وقال أيوب السختيانى: ويل لهم، من يخدعون؟ يعنى أصحاب الحيل.
وقال بعض أصحاب الحيل: ما تنقمون منا إلا أنا عمدنا إلى أشياء كانت عليكم حراما فاحتلنا فيها حتى صارت حلالًا.
وقال زاذان. قال على رضي الله عنه، يعنى وقد رأى مبادئ الحيل: إنى أراكم تحلون أشياء قد حرمها الله، وتحرمون أشياء قد حللها الله.
قلت: ومن تأمل الشريعة ورزق فيها فقه نفس رآها قد أبطلت على أصحاب الحيل مقاصدهم وقابلتهم بنقيضها، وسدت عليهم الطرق التي فتحوها للتحيل الباطل.
فمن ذلك: أن الشارع منع المتحيل على الميراث بقتل مورثه ميراثه، ونقله إلى غيره دونه لما احتال عليه بالباطل.